في أحد الأيام من عام 1980 وفي مدينة من المدن السورية الجريحة تدعى حماة . كان يحكم
البلد عصابة وحشيه ونظام بعثي قاتل
اعتاد أن يصب الرعب والظلم دون رادع أو رقيب . في تلك الفترة كانت قد حدثت بعض الأحداث وتوعد النظام القاتل بزعامة السفاح حافظ الأسد أن يقتل مقابل كل رجل مخابرات بعثي عشرين شخصا من العوائل المعروفة في حماة .
ووقع الاختيار على اثنين من خيرة أبناء عائلة حوى وهما الوالد محمود حوى و شقيقه مصعب رحمهما الله وتقبلهما من الشهداء الأبرار .
كان الجنود ورجال المخابرات يترددون على المنطقة ويداهمون البيوت بحثا عن المطلوبين في عين النظام القمعي الأسدي الحاقد .
كان الوالد رحمة الله شجاعا لا يهاب كلاب الأسد ولم يختبئ منهم يوما رغم علمه أنهم يلاحقونه فهو أخ للشيخ سعيد حوى رحمه الله وهذه وحدها جريمة كافية لقتله..
كان رحمه الله مهابا مع ابتسامة دائمة على وجهه، كريما حتى على جنود حظر التجول الذين عينهم النظام في حماه وكانوا من الجنود البسطاء وكان الوالد رحمه الله يجهز لهم السندويشات ويقدمها لهم ليسد جوعهم وهو يعلم أنهم مجبرين على ذلك العمل ولا يملكون خيارا أخر .. كان صادقا أمينا بشهادة من عرفه وتعامل معه على المستوى الشخصي والمادي والاجتماعي .
في أحد أيام الشتاء عاد والدي من عمله إلى المنزل بعد يوم شاق وبعد أن استراح قليلاً وملأ البيت بهجة وحبا وحبورا، أراد أن يخرج كعادته للجلوس مع الجيران في منزل مجاور وكان يسمى (المنزول) يجتمع فيه الجيران يومياً يتسامرون ويشربون الشاي والقهوة وهو أشبه ما يكون بالديوانية
طلبت منه الوالدة بإلحاح أن لا يذهب إلى المنزول، فابتسم وقال إن شاء الله، وخرج من البيت مبتسماً كعادته ووعدها خيرا .
وبينما هو هناك – ونحن لا نعلم أين هو –
جاء أحد الجيران إلى المنزول وكان فيه الوالد رحمه الله فقال له جارنا: الجيش والمخابرات يملئون الحي وأخاف عليك منهم يا أبا محمد، فقم واختبئ في مكان آمن حتى يذهب كلاب الأمن والمخابرات فلا مفر لك سوى الاختباء ..
فما كان من الوالد إلا أن اتكأ و نظر إلى جاره قائلاً والابتسامة الآسرة لم تفارق وجهه : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) ورفض الاختباء .
بعد ذلك بقليل داهمت عصابة من رجال الأمن والجيش بلباسهم العسكري منزل العائلة وفتح أخي الأكبر محمد الباب وهو لم يبلغ العاشرة بعد
سأله أحدهم بقسوة أين والدك ؟
فرد أخي : لا أعرف
وقبل أن يتم أخي جوابه كان أحد الجنود ينادي قائلا: سيدي يوجد رجال هنا وأشار إلى المنزول
فاقتحم كلاب الأمن المدججون بالسلاح المكان وطلبوا من الجميع الخروج إلى الشارع
وأوقفوهم على الجدار رافعين أيديهم، وبدؤوا يسألونهم عن أسمائهم حتى وصلوا إلى الوالد فاعتقلوه وأطلقوا سراح الباقيين وهم يكيلون الشتائم
كل ذلك تم وأمي وإخوتي ينظرون إليهم من خلف شباك مطل على المكان ولكم أن تتخيلوا صعوبة الموقف ،والخوف والرعب الذي كان يسيطر على الجميع فهؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
أخذوا الوالد بسيارتهم العسكرية وانطلقوا به ليأخذوا شقيقه الأصغر .
وصلوا إلى بيت جدي وكانت فيه جدتي وبعض أعمامي فاقتحموا البيت وروعوا أهله وأخرجوا من فيه من الشباب، وقبضوا على عمي وهو الشهيد مصعب.
سلم والدي على جدتي وأراد أن يطمئنها بأنه سيعود إليها بعد قليل ليخفف عنها ما أصابها من خوف ورعب وقد كان بارا بها رحمه الله تعالى.
فلما رأى ذلك أحد الأشقياء قال لجدتي في لهجة تهكمية ساخرة: ودعيهم يا حجة، يريد منها أن تودع ابنيها الوداع الأخير لأنهم لن يعودوا إليها .
وانطلقوا بعدها إلى مكان بالقرب من النصب التذكاري في حماة
وسُمع دوي إطلاق الرصاص .
في تلك اللحظة سمعت الوالدة صوت إطلاق الرصاص الذي شق سكون الليل
فأطلقت شهقة ألم و أردفت والدمع يملأ عينيها : لقد قتلوه.
وكان فعلا كما قالت، فقد أعدموه رميا بالرصاص في الوجه والجبين مكبل اليدين وهو أعزل إلا من إيمانه بربه ويقينه بأنه مظلوم.
مقبلا غير مدبر هو وشقيقه مصعب
وطلبوا من أحد الأقارب أن يأخذ جثتي الشهيدين إلى المشفى ويدفنهم مباشرة
ولم يسمح لأحد منا برؤيته أو إلقاء نظرة وداع أخيرة عليه قبل دفنه ..
فقد كانت الأوامر صارمة بإعدامهم ظلما وجورا و منع ذويهم من رؤيتهم ..
وتم دفنهم ومنع العزاء بهم ..
هكذا استشهد والدي الحبيب وكان من أوائل من روى دمائهم ثرى الوطن
قبل ثلاثين عاما .. وحدثت مجزرة حماة الشهيرة بعد ذلك بأشهر
فلله درك يا والدي ولله درك يا عماه
رحمكم الله و أسكنكما فسيح الجنان وجمعنا بكم في مستقر رحمته ورزقنا شهادة في سبيله ..
*****
القصه كما رواها لي اخوتي الذين عاصروا الحادثه
المغتربه بيان حوى